الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ,والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل أجمعين ,بشَّرَ وأنذر ووعد وأوعد ,أنقذ الله به البشرية من الضلالة وهدى الناس إلى طريق مستقيم صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين وصحابته والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين ...أما بعد.
فإن من الموضوعات التي ينبغي أن تُبذل فيها الجهود وتُنفق الأوقات التعرف على أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في تربية وتعليم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعرفة منهجه في ذلك من كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام القولية والعملية والتقريرية ومن الآثار السلوكية للصحابة التي هي نتاج تلك التربية النبوية المباركة ...ثم مع اختلاف مصادر الناس في استمداد مناهج التربوية واختلاف أساليبهم كثرت الأخطاء والسلبيات فكان من اللازم دراسة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه لأصحابه ,لأن هذا المنهج كما هو معلوم قد أخرج جيل الصحابة الذين هم خير القرون .
ومن هنا نقف عند معنى التربية ومفهومها ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه رضوان الله عليهم وأساليبه في ذلك :
-الفرق بين التربية والتعليم :
هناك فرق واضح بين عملية التربية من جهة والتعليم من جهة أخرى:
التعليم : يمثل جزء من التربية .
والتربية : تشمل التعليم والعكس غير صحيح .
فالإسلام يسعى لإيجاد الإنسان الصالح لكي يُصلح حاله على الأرض ويُنظِم حياته وفق منهج محدد رسمه لك فيحرك به على الأرض وفي الوقت نفسه متجه بروحه إلى الله .
أما عملية التعليم :
هي جزء من عملية التربية الكاملة والواسعة الشمول . ومما يؤكد أهمية ذلك : ماورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض الإسلام على أب ي بكر رضي الله عنه قال له : "يا أبابكر إني رسول الله ونبيه بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق فوالله إنه للحق ,أدعوك إلى الله وحده لاشريك له ولا تعبد غيره "[1]
ثم بعد هذه التربية العظيمة على صحة الاعتقاد وتحقيقه في النفس وتوضيحه أشد الوضوح كان حريصاً عليه الصلاة والسلام على حراسة هذا الاعتقاد ,فكان يلاحظ تصرفات أصحابه في أقوالهم وأفعالهم فإذا رأى أو سمع من أحد فعلاً أو قولاً ينافي التوحيد أو يضعفه فإنه يسارع في نهيهم وزجرهم ويبين لهم الصواب .
من هنا يجب على المربي ملاحظة أي سلوك يطرأ على من تربيهم وتوجههم وعدم إرجاء تقويم أي سلوك لما في ذلك من آثار سلبية على تربية النشيء ويكون بذلك مقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم .
_ تربيته لأصحابه على تزكية النفس:
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم تربية أصحابه بتصحيح الاعتقاد لأنه أساس التربية وجوهرها ليتحقق به تطهير النفوس من شوائب الشرك والأخلاق السيئة وتقوية الإيمان فيكون الإنسان مستحقاً للأوصاف المحمودة في الدنيا والآخرة الأجر والمثوبة ,فيُقبِل على الخير وبيتعد عن الشر ويتحلى بالأخلاق الحميدة ,ويعتز بدينه ويستعين بربه ويلجأ إليه في كل أموره واثقاً في عونه ونصرته وهدايته .
ثم حرص صلى الله عليه وسلم على عقد صلة دائمة بين نفوسهم وبين الله تعالى في كل اللحظات والأوقات وكان يعتمد في تزكية نفوسهم على أهم ما في الإنسان والذي يتوقف عليه صلاح بقية الجسد أو فساده وهو القلب .كما قال :"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " [2]
-تربيته لأصحابه على العلم والعمل:
لا يوجد في الإسلام فصل بين العلم والعمل لا في نصوص الشريعة ولا في واقع الجيل الأول في خير القرون ,فالعمل الصالح هو ثمرة العلم النافع ولا خير في علم لم يورِّث صاحبه عملاً يقرِّبه إلى ربه عز وجل .عن أبي عبد الرحمن بن عبد الله السلمي قال : "حدّثنا الذين كانوا يقرئون القرآن –عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا مافيها من العلم والعمل ,قالوا : (أي الصحابة) فتعلمنا العلم والعمل .
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : " تعلموا ما شئتم أن تتعلموا فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا به ".
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : "لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به فإذا عمل به كان عالماً ".
وكان صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على التزام الأخلاق وأن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقاً و"ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب الخُلق الحسن ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة ".[3]
بهذه التربية الأخلاقية العالية ملك المسلمون في قرونهم الاولى قلوب الآخرين فكان الناس يدخلون في هذا الدين أفواجاً لما يرون من حسن المعاملة وجميل الأخلاق .
وهذه بعض الأخلاق التي ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها :
1-الصدق :
كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الصدق لأنه أصل الفضائل ومنبع الثقة وثمرة الأخلاق .والصدق بمعناه الضيق :مطابقة منطوق اللسان للواقع .
وبمعناهم الأعم:مطابقة الظاهر للباطن .فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه .والصدق التزام بالعهد قال تعالى : " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " [4], والصدق يحتاج إلى إخلاص لله تعالى وعمل بميثاق الله في عنق كل مسلم .قال تعالى : " وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ " [5]. ,فإذا كان أهل الصدق سيُسألون فكيف يكون السؤال للأهل الكذب والنفاق ؟ ! ! !.
الإمام البخاري رحمه الله يرفض أن يأخذ شطر حديث من رجل يكذب على حصانه بعد أن تحمّل مشاق السفر إلى اليمن لأجل ذلك .
وكل خلق جميل يمكن اكتسابه بالاعتياد عليه والحرص على التزامه وتحري العمل به كما قال صلى الله عليه وسلم :" عليكم يالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً ...الحديث" [6]
ومن مناقب الإمام أحمد أنه قيل له : " كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق ؟فقال : "لو وضع الصدق على جرح لبرأ " ويوم القيامة يقال للناس :" هذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ " [7] والصدق يطهِّر اللسان ويصلح الأعمال والأ؛وال وينير القلب ويغفر الذنب ومامن نعمة أنعم الله بها على عبد بعد الإسلام أفضل من الصدق في أقواله وأعماله وأحواله ..ويكفي أن الصدق من صفته من صفات الخالق ثابتة له في الكتاب والسنة : " قلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ" [8], وصوله صلى الله عليه وسلم : "صدق الله وعده ونصر عبد وهزم الأحزاب وحده "[9]
ومما يعين على الصدق :مراقبة الله والحياء منه ,صحبة الصادقين ,الدعاء ,معرفة وعيد الكاذبين .
2-العدل :
بالرجوع إلى كثير من نصوص القرآن التي تتحدث عن الظالمين نجد أنها نفت عنهم الفلاح ( إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) [10], واستبعدتم من أن ينالهم عهد الله : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
) [11], وبشّرتهم بأن الله لايحبهم : (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [12],وفي مقابل ذلك فإن لله على جميع عباده : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) [13],وجعل في مقدمة السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله (إمام عادل ) [14], ومن الخير للعبد أ يظلم مخلوقاً في الديا من إنسان أو حيوان فمهما يكون الإنسان ضعيفاً فإن الله ناصره ومن له بالله طاقة حتى يتجرأ على ظلم العباد ,
فقد جاء في الحديث : " ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين "[15]
وتمام العدل حين يكون مع الصديق والعدو كما علّمنا القرآن : ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) [16],وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه من المنجيات :
"العدل في الغضب والرضا " [17].وقد خصّ الله أهل العدل في الدنيا بإعلاء شأنهم في الآخرة فقرّبهم منه سبحانه كما في الحديث : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن-وكلتا يديه يمين-الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وماولّوا " [18]
وحين جاء عبد الله بن رواحة إلى اليهود في خيبر لتقدير محصولهم من الثمار والزروع وتقاسمها حسب ماتم الاتفاق عليه بعد فتح خيبر, حاولوا رشووة عبدالله بن رواجة ليرفق بهم فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حسبي إيّاه وبعضي إياكم على أن لا أعدل فيكم " فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض " [19]